لقد شهد الحجاج في العصر الحديث انبعاثه من خلال مؤلّفين صدرا في السّنة نفسها,مؤلّف حاييم برلمان و لوسي أولبرتيتكاه " مصنّف في الحجاج -الخطابة الجديدة" Traité de l’argumentation :la nouvelle rhétoriqueومؤلّف ستيفان تولمان " استعمالات الحجاج" Les usages de l’argumentation [1]
و قد عدَّ المصنّفان عمادَ تصور جديد ما فتىء و أن تتطوّر ليقود الحجاج إلى تصوّر لسانيّ محض تزعّمه بصفة خاصّة ديكروO. Ducrot وأوسكمبر J.C.Anscombre في كتابهما المشترك" الحجاج في اللّغة".] 2] والطّريف في هذه التّصوّرات الجديدة النزوع إلى جعل الحجاج مستقلاّ في الجمل و الخطابة بريئا من تهمة الدّعاية والمغالطة[3] مرتبطا بمفاهيم جديدة انتظمتها اتجاهات ردّت في الغالب إلى أعلامها المنشئين فكيف تمّ تصوّر الحجاج عندهم؟
الحجاج عند برلمان و تيتيكاه : [4]
لقد نشأ اهتمام برلمان و تيتيكاه بالحجاج في إطار حقوقيّ قانونيّ يكاد يذكّرنا بنشأة الاهتمام به عند السّفسطائيّين غير أنّ الباحثين قد استنبطا للحجاج حدّا جديدا جعله سليل الخطابة و الجدل مارقا عنهما في الآن نفسه فموضوع الحجاج عنـــــــــدهما " درس تقنيّات الخطاب التي من شأنها أن تؤدّي بالأذهان إلى التّسليم بما يعرض عليها من أطروحات أو أن تزيد في درجة ذلك التّسليم "[5] وهو إلى ذلك محكوم بغاية عمادُها" جعل العقُولٍ تذعن لما يُطْرَحُ عليها أو يزيد في درجة ذلك الإذعان إذ أنجع الحجاج ما وفّق في جعل حدّة الإذعان تقوى درجتها لدى السّامعين مهيّئين لذلك العمل في اللّحظة المناسبة" [6] ومثل هذا الحدّ جعل الباحثين يميّزّان الحجاج عن الخطابة و الجدل ليؤسّسا لهمـا علاقة جديـــدة جعلت "الجـــدل فــي خدمـــة الخطابــة و الخطابة غاية الجدل فهو لها عماد وهي له امتداد" إنّ هذا التّصوّر الجديد قد نزّل الحجاج في إطار نظريّة التّواصل Théorie de la communication وجعل الاهتمام به بحثا لا في طرائق تداول الأفكار وتمريرها فحسب وإنّما كذلك بحثا في ما يقود إليه التّأثير النّظريّ من إذعان سلوكيّ . ومن ثمّ تصوّر الباحثان ضرورة قيام الحجاج على عقد تواصليّ ميزته الرّئيسيّة طبيعة الجمهور وهي طبيعة نظريّة مجرّدة لاصا نع لها إلاّ ذهن المحاجّ الذي عليه أن ينشئ خطابه على استباق ردود فعل جمهوره وتقبّلهم خطابه ألإقناعي استباقا ينبغي أن يكون عنصرا مهمّا من عناصر صناعة الخطاب نفسه كما تصوّرا حدودا جديدة للحجّة وتقنيّات الحجاج.
أمّا الحجّة فهي عندهما مظهر من مظاهر الخطاب لا تكتسب صفتها تلك – باعتبارها حجّة - إلاّ من خلال وقعها في متقبّل الخطاب بناء على غايات الحجاج و إلاّ فإنّها تصير عند ذلك مجرّد تزويق للكلام و هذا ما يجعل تدبّر أمر الحجّة صناعةً أمرًا مهمًا تنعقد عليه صفة الخطاب إذا كان من الحجاج أم لا كما يجعل استقراء الحجّة مرتبطا عضويّا بموقعها من السّياق إذ أنّ في عزلها عنه خطرًا يتهدّد كيان الحجّة نفسه.
أمّا تقنيّات الحجاج فقد ردّها الباحثان إلى تقنيّتين رئيسيّتين :
تقنية الوصل Procédé de liaison وهي تقنية قائمة على التّأليف بين المتباعد من العناصر لردّها إلى بنية واضحة من شأنها أن تتيح لنا إمكانية تقويم أيّ عنصر بواسطة غيره من العناصر تقويما إيجابيّا أو سلبيّا . وهذه التّقنية الاتصالية تقتضي ثلاثة أنواع من الحجج هي :
الحجج شبه المنطقيّة Les arguments quasi logiqueوهي حجج قائمة على المنطق الرّياضيّ وهي أقرب إلى المنهج الاستدلالي منها إلى التّفكير الصّوريّ المجرّد
الحجج المبنية على بنية الواقع Les arguments basés sur la structure du réel وهي حجج قائمة على الرّبط السّببيّ وعلى حجج السّلطة.
الحجج المؤسسة لبنية الواقع Arguments qui fondent la structure du réel شأن المثل l’exempleوالشّاهد l’illustrationوالتّمثيــل l’analogie والاستعارة la métaphore
تقنية الفصل Procédé de dissuasion وهي تقنية قائمة على كسر عرى التّآلف بين عناصر تقتضي في الأصل وجود وحدة بينها وتتأسّس هذه التّقنية على ثنائيّة الظّاهر L’APPARENCE و الحقيقة la réalité فالظّاهر يردّ كلّ الأشياء إلى ما هو مُعاين و الحقيقة تكسبها هويّة جديدة هي بمقتضاها تعبير عن الصّورة المثلى لتلك الأشياء كما استقرت في الأذهان[7].
الحجاج عند تولمان :
تأثّر تولمان في تصوّره للحجاج بالوضعيّة الأنجلوساكسونيّة فسعى إلى نمذجة الحجاج بردّه إلى رسوم حجاجيّة هي :
يتأسّس على ثلاثة أركان هي المعطى والنّتيجة والضّمان وهو رسْمٌ يحدّد هويّة المعطى نتيجة تستمدّ مشروعيّتها من طبيعة الضّامن .
يضيف إلى الأركان الثّلاثة السّابقة عنصرين هما الموجّه والاستثناء ويكون في العادة لرفض القضيّة المطروحة .
ويضيف إلى سابق العناصر عنصر الأساس fondement وهو عنصر يتعلّق أساسا بالضّامن ليثريه فيوجّه الانتباه إلى الاستثناء باعتباره تشكيلا جديدًا للنّتيجة .
إنّ رسوم تولمان الحجاجيّة استمدت من أقيسة سقراط وهو أمر جعلها تسقط في فخّ الصّوريّة ليستبعدها العديد من الدّارسين من دائرة الحجاج[8] إذ أنّها غيّبت العناصر المقاميّة وجعلت صورة المتقبّل ضامرة وهو ما لا يستقيم حجاجا إذ من شروط الحجاج انخراطه في منظومة التّواصل و إيلاء المخاطب مكانة مهمّة نبّهنا إليها تولمـان و تيتيكاه ومن قبل أرسطو في خطابته .
الحجاج عند أوسكمبر وديكرو :
اعتبر الباحثان الحجاج كامنا في اللّغة متأتّيا من بنية الأقوال اللّغويّة لا من مضمونها الإخباريّ[9]ومن ثمّ فلا دراسة للحجاج خارج نطاق دراسة اللّغة وهو ما يجعل العمل الحجاجيّ عملا كلاميّا ACTE DE LANGAGE يتنزّل في إطار براغماتيّ دلاليّ يجعل اللّغة تحمل في ذاتها بعدا حجاجيّا بناءً علــى طرائق النّظم فيهـا باعتبارها – أيْ طرائق النّظم – فاعلة في التّوجيه L’ORIENTATION وهو وظيفة الحجاج الرّئيسيّة.
إنّ هذا الحدّ يرتبط عضويّا بتصوّر لسانيّ دلاليّ تمتدّ جذوره إلى دروس سوسّير العامّة و تصوّره المستحدث للتّواصل اللّغويّ وهو تصوّر جعل المواضعة عماد الفعل اللّغويّ لتكتسب البنية دلالة مخصوصة همّ منتج الخطاب فيها يتخطّى حدود الإبلاغ المجرّد ليضمن لخطابه بعدًا توجيهيّا يؤثّر في السّامع أو المتلقّي و يحمله على ما رامه منتج الخطاب من مقاصد.
الخاتمة:
لقد مثّلت هذه الاتجاهات حجر الأساس لكلّ من طلب دراسة الحجاج في العصر الحديث وهي و إن اختلفت مشاربها و منطقاتها المنهجيّة أو الأصوليّة تكشف لنا بوضوح قيمة الموقف من الحجاج باعتباره عنوان بلاغتنا الجديدة.